ابحث عن أي موضوع يهمك
كثيرون لا يعرفون الفرق بين العلمانية والليبرالية على الرغم من تردد المصطلحين مرارًا وتكراراً بالتلفاز والصحف، واليوم نقرأها على مواقع التواصل الاجتماعي، ويمكن القول أن أسس الحداثة الثلاثة التي تم الإعلان عنها من قبل هيغل وهي الحرية والذاتية والعقلانية هي ما تم الإعلان من خلاله حول مركزية الإنسان بالحضارة وما له بها من دور، ونتيجة لتلك الأسس تنتشر المذاهب الفكرية، ولديكارت دور بتعزيز الذات الإنسانية بالعصر الحديث، ومن ذلك المنطلق نوضح لكم في مخزن المقصود بالليبرالية والعلمانية والفرق بين كل منهما.
يوجد العديد من الجوانب التي يمكن من خلالها التفريق بين العلمانية والليبرالية، وسوف نوضح لكم أهم تلك الفروق فيما يلي:
تعني العلمانية فصل الدين عن الدولة، وهو ما يتبعه فصل المؤسسات الدينية بالدولة عن غيرها من المؤسسات الأخرى الدولية، ولكنها بالوقت ذاته تضمن وتحمي حرية ممارسة الطقوس الدينية والشعائر الدينية بغير التدخل بالشعائر والطقوس الدينية للأفراد الباقين بالدولة، وهو ما يترتب عليه تساوي الجميع أمام القانون.
أما الليبرالية فإنه من المصطلحات الأجنبية التي تم تعريبها، ومعناه الحرية أو التحررية، وهو عبارة عن اتجاه فكري يركز على أهمية احترام استقلالية الأفراد والحرية الفردية، والمحافظة على حرية الإنسان، وهنا تعتبر الحكومة أول المسؤولين عن ذلك الأمر، لذا يسعى أصحاب ذلك المذهب نحو القضاء على أي قيد يحول دون تمتعهم بالحرية الكاملة.
يعتبر جون لوك John Locke الفيلسوف البريطاني هو أول من وضع مفهوم الليبرالية، وأول من نادى بفكرة فصل الدين عن الدولة، وهو ما جعله يجمل لقب أبو الليبرالية، في حين أن مؤسسي العلمانية وأهم روادها هم جورج هوليوك George Holyok، وتوماس هوبز Thomas Hobbes، وقد تنبه الفيلسوف الهولندي سبينوزا Spinoza إلى مدى خطورة التدخل ما بين السلطة الدينية والسلطة السياسية، وهو من كتب كتاب (رسالة في اللاهوت والسياسة).
المذهب الليبرالي يقوم على الأساس العلماني الذي يعظم الإنسان، ويراه كائن مستقل بذاته، قادر على إدراك احتياجاته، وهو ما يعني أن الليبرالية مذهب يعزز ويحمي الحرية الفردية، وبالتالي فإنه من نتائج العلمانية، وهو ما يشير إلى أن من العلمانية انبثقت فلسفة الليبرالية، أما الفرق فيكمن في أن جميع الفلسفات الحديثة ومن بينها الليبرالية ما كان من الممكن إتمامها دون فصل الدين عن الدولة وهو ذاته المبدأ الذي تقوم عليه العلمانية.
حيث إن العلمانية تعد بمثابة الخطاب الذي قضى على فلسفة العصور الوسطى، وحصر ما للدين من دور بالمؤسسات الدينية، والبعد عن أمور الدنيا، ومن ثم تأسست فلسفات الحداثة والتي تعتبر الليبرالية من أهمها، وهو ما يرجع الفضل به لفلاسفة التنوير الأوروبي.
بالعصور الوسطى كانت الكنسية هي المسيطر والمتحكم بمصائر الناس على الأرض وبالسماء، ومن ثم قامت النهضة وكانت بدايتها إيطاليا، والتي كانت في ذلك الوقت مجرد مجموعة من الدويلات الصغيرة، ومنها خرج عدة مفكرين سعوا نحو وضع النظرية السياسة الحديثة وأسس الإصلاح، ومن أهم هؤلاء المفكرين الراهب مارتن لوثر، والذي علقها بكتابه العريض على باب الكنسية، لذا استدعاه البابا حتى يتناقش معه بالأمر، ولكن لوثر لم يتخل عن مبدئه بأهمية إعادة النظر بالمفاهيم المسيحية اللاهوتية، ومن أبرز ما كان معترضًا عليه من أمور هو صكوك الغفران.
وقد أتت العلمانية لتخلص الكتب المقدسة مما لسيطرة الكنسية وتحكم الرهبان في الأفراد طوال فترة القرون الوسطى من آثار، واستبدال المعايير الدينية الأخلاقية بمفاهيم العقد الاجتماعي، وكان ذلك الوضع هو أساس السياسة الليبرالية القائمة على فكرة الحق الطبيعي الذي كان يتمتع به الفرد بالحالة الطبيعية السابقة على العقد الاجتماعي وهي التملك، والحق بالحياة، والحرية، وقد ساهمت الحركة اللوثرية في الإصلاح بشكل كبير.
وخلال الفترة ما بين القرن السابع عشر إلى القرن التاسع عشر تمكن العلمانية من أن تصبح حركة فكرية تتزامن مع انتشار التنوير بالبلاد الأوروبية، والتي ساهمت بإعادة صياغة النظرة التقليدية للسلطة، وإعادة الهيكلة للعقلية الأوروبية دون تدخل رجال الدين وما لهم من أساطير وخرافات سيطرت على عقولهم لعشرة قرون من الزمن.
ومن الضروري أن يتم التأكيد على أن كل من الليبرالية والعلمانية لا يحربان الدين في ذاته، ولكنهما يحاربان جميع الأساطير والخرافات، ورفض حشو عقول البسطاء بالأوهام أو استغلالها، حيث إن كانط الفيلسوف الألماني والذي يعتبر من أهم من قام بتأسيس حركة التنوير بأوروبا وضع مقولته الشهيرة (تجرأ على استعمال عقلك)، وهو من دعا إلى عدم الخضوع لما يقدمه رجال الدين من تفسيرات.
وبالتالي فإن ما انتشر من تنوير بأوروبا وغيرها من الدول المختلفة سواء فرنسا أو بريطانيا وألمانيا كان له تأثير كبير بإعادة النظر بالمفاهيم الدينية، والابتعاد عن التدخل من قبل السلطات الخارجية، وتقديم المفاهيم الإيمانية بشكل أكثر عقلانية.
تركز كل من الليبرالية والعلمانية اهتمامها على الأفراد وحياتهم وأمورهم الدنيوية وفق طبيعة ما يعيش به الفرد من عصور، بعيدًا عما هو مذكور بالكتب المقدسة، وعادةً ما تصنف العلمانية باعتبارها فلسفة تقوم على الحد مما للدين من تأثير بالحياة الخاصة والعامة، ومن ثم فإن الإنسان وحده هو من يحدد مصيره، وقد ترتب تاريخيًا على الاستمرار الطويل للممارسات الدينية بأوروبا تطبيق أعلى مستويات ممكنة من العلمانية.
أما السياسية الليبرالية فإنها تؤكد على أنها مجرد مفهوم أخلاقي لا يمنح أي أمر سوى بنية المجتمع الأساسية اهتمامًا، مقدمةً إياه بعيدًا عن جميع المذاهب الشيوعية، ومن أهم ما أتت الليبرالية لتؤكد عليه أن جميع المواطنين متساويين وأحرار.
كان الانتشار الأول للعلمانية في أوروبا ببدايات عصور الإصلاح الديني وعصور النهضة، فكانت بدايتها ببريطانيا، ومنها إلى فرنسا، ثم ألمانيا، لتأتي الليبرالية وتلحق بها، والتي انتشرت كذلك في البداية على يد جون لوك الفيلسوف الليبرالي في بريطانيا، لنتنشر فيما بعد إلى جميع مناطق القارة الأوروبية وصولًا للولايات المتحدة الأمريكية، كما دعت بعض الحركات العربية للعلمانية والليبرالية، الأمر الذي جعلها تنتشر ببعض الدول العربية.
تعني العلمانية في الإسلام فصل الدين عن الحكومة، وهي بعيدة تمام البعد عن الإلحاد، أو ما فيه معنى استبعاد الدين عن الخطاب العام، حيث لا يعد الدين ثوب يمكن ارتدائه وخلعه، إلى جانب أن العلمانية تسعى نحو ضمان حرية وحق الفرد بممارسة شعائره ودينه، وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين بالشورى، فإن اجتمع الشعب على نظام حكم لا يتعارض مع الدين فمن الضروري أن يتم تأييده، وهو ما يعني أن الاتحاد ما بين العلمانية والإسلام مقبول وجائز.
حيث هناك توافق ما بين الدين الإسلامي وبين المذهب العلماني ولا يوجد بين أسسهما أي تعارض، وفي عهد النبي الكريم صلى الله عليه وسلم لم يكن قد نشأ مفهوم المجتمع، ولكن الأمة كانت مجتمع المسلمين، والشريعة والفقه نزلا للأمة الإسلامية ولم ينزلا للمجتمعات الحديثة، حيث إن المجتمع ككل ما هو إلا اختراع حديث للعصر الحالي.
كان ذلك هو الفرق بين العلمانية والليبرالية عرضناه لكم في مخزن من مختلف الجوانب والأبعاد، حيث اتضح أن كل منهما يكمل الآخر، وكليهما يسعى نحو تحقيق مصلحة الفرد والمجتمع، ليحصل الجميع على حريته واستقلاليته، والتمتع بالحق في ممارسة الشعائر الدينية دون قيد أو تدخل من السلطات السياسية الحاكمة.